بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فإن الذي يقرأ كتب التفسير، يقف على اختلاف المفسرين في آيات كثيرة، فما هو السبب في هذا الاختلاف، نبيّن ذلك فيما يلي مع لحظ أنني اكتفيت بالأمثلة وتحديد محل الاختلاف من دون ذكرٍ لأقول المفسرين فيها وذلك طلباً للاختصار.
أولاً: أنواع الاختلاف:
الاختلاف ينقسم إلى نوعين:
أحدهما : اختلاف تضاد وتناقض.
وعرِّف بأنه: ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى خلاف الآخر[1]، ومثل هذا النوع لا وجود له في القرآن الكريم مطلقاً. ثانيهما - اختلاف تلازم.
وعرِّف بأنه: ما يوافق الجانبين كاختلاف وجوه القراءة [2]. ولقد ناقش ابن تيمية - رحمه الله - في مقدمته في أصول التفسير ، مسألة الخلاف بين المفسرين، مفرقاً في ذلك بين تفسير السلف " المأثور " وبين تفسير غيرهم. فأما بالنسبة لتفسير السلف ، فقد بيّن ابن تيمية أن غالب ما ينقل عنهم فيه راجع إلى اختلاف التنوع ، وليس اختلاف التضاد[3]. وذلك مثل اختلافهم حول تفسير)الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ((الفاتحة: من الآية6)، فبعضهم قال : هو إتباع القرآن ، وبعضهم قال : هو الإسلام ، فهذان القولان الاختلاف فيهما اختلاف تنوع ؛ لأن دين الإسلام هو إتباع القرآن.ثم تناول ابن تيمية وجوهاً أخرى للخلاف، داخلة في إطار خلاف التنوع. وأما التفسير بالرأي ،فقد أرجع ابن تيمية الخلاف فيه لسببين:
أحدهما: قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.
والثاني: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه ، والمخاطب به. فالأولون: راعوا المعنى الذي رأوه من نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان. والآخرون: راعوا مجرد اللفظ ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ، وسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيراً ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة كما يغلط في ذلك الذين من قبلهم. كما أن الأولين كثيراً ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا القرآن ، كما يغلط في ذلك الآخرون. وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق أ.هـ[4]. ثانياً: أسباب الاختلاف:
أما العلامة ابن جُزَي فقد ذكر أسباب الخلاف بين المفسرين حاصرها في اثني عشر سبباً هي:
1- اختلاف القراءات.
ومنه قراءة ) نُنْشِزُهَا((البقرة: من الآية259) , وننشرها.
2- اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءات.
ومنه اختلافهم حول "لا" من قوله تعالى:)سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى((الأعلى:6).
3- اختلاف اللغويين في معنى الكلمة.
ومثاله ، اختلافهم حول معنى لفظ "مخلدون" من قوله تعالى:)يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ((الواقعة:17).
4- اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر.
ومنه اختلافهم حول معنى " القرء " في قوله تعالى:)وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ((البقرة: من الآية228).
5- احتمال العموم والخصوص.
ومثاله: اختلافهم حول المراد بالناس في قوله تعالى:)أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ((النساء: من الآية54).
6- احتمال الإطلاق والتقييد.
فمثاله: قوله تعالى في كفارة الظهار:)فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ((النساء: من الآية92)، وفي كفارة اليمين:)أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ((المائدة: من الآية89) حيث أطلق الرقبة في الموضعين ولم يقيدهما بوصف، وفي كفارة القتل الخطأ قيدت الرقبة بوصف الإيمان هكذا: )فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ( (النساء: من الآية92).
7- احتمال الحقيقة أو المجاز.
ومنه كذلك اختلافهم حول المراد بالضحك والبكاء في قوله تعالى:)وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى( (النجم:43).
8- احتمال الإضمار أو الاستقلال.
ومثاله: قوله تعالى:)يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ((البقرة: من الآية9) فقوله "يخادعون" من الخدع وهو الإخفاء والإبهام وقيل: هو من الاستقلال وليس الإضمار.
9- احتمال أن تكون الكلمة زائدة.
ومثاله: اختلافهم حول كلمة "من" في قوله تعالى:)إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ((الحجرات: من الآية4).
10- احتمال حمل الكلام على الترتيب أو على التقديم والتأخير.
ومثاله: قوله تعالى :)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً((البقرة: من الآية67).
11- احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً.
ومثاله: قوله تعالى :)اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ((آل عمران: من الآية102) مع قوله تعالى:)فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ((التغابن: من الآية16).
12- اختلاف الرواية في التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -وعن السلف-رضي الله عنهم[5]. فمثاله: ما حكي من خلاف حول تفسير قوله تعالى:)إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ((التوبة: من الآية28).
وبالله التوفيق، وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أخوكم/ الراقـــــي
[3] - مقدمة في أصول التفسير ../50- 54 [4] - مقدمة في أصول التفسير ../84